فاطمة ناعوت تكتب ..لماذا هرب الجمل؟

الحق والضلال

خاص لموقع الحق والضلال

انتفض الرأي العام في مصر من مشهد مخيف غير حضاري حدث الأسبوع الماضي في أحد أكبر شرايين القاهرة، عاصمة مصر، "أم الدنيا"، كما نحب أن نناديها لنتقوّى كلما شعرنا بالضعف وغُصّة من المرارة تجرح حلوقنا. شارع القصر العيني الذي يبدأ من تحت أقدام مستشفى "القصر العيني" الشهير، وينتهي عند ميدان التحرير، قلب مصر وساحة ثوراتها، ونقطة انطلاق حريّاتها. شهدت إحدى ساعات النهار مطاردة عنيفة بين خمسة رجال أشداء يحملون سيوفهم وعصاهم، وبين جمل أعزل يرتعد خوفًا وهو يجري على غير هدى إلى اللامكان. قالت الصحف إن الجمل هرب من نصل الجزار البارد في المجزر القديم “المدبح”. لكن إلى أين الهرب أيها الجمل البائس؟ مقبوضٌ عليك لا محالة، ومقضيٌ عليك لا محالة، وبالطريقة والأسلوب الذي نحدده نحن الجزارون الغلاظ القلب من بني الإنسان دون أن نعبأ بشرائع إلهية ولا أوامر نبوية ولا نصوص مقدسة تقضي باحترام الحيوان والرحمة به. فلنترك الرحمة للرحماء. طارد الجزارون الجمل من حارة إلى شارع، ومن شارع إلى ميدان، ومن ميدان إلى شارع حتى وصل إلى شارع القصر العيني المزدحم أبدًا، فلحقوا به، وتمكّنوا منه، وأعملوا فيه نصالهم ذبحًا ونحرًا ووخزًا على قارعة الطريق، أمام المارة والسابلة وتحت مرأى ومسمع البنايات والمحال ونوافذ البيوت وأسفلت الشارع. فاض الشارع ببركة عظيمة من الدماء المهراقة. أزعجت عيونُ من انزعج، ففر سريعًا ومضى إلى عمله وهو يضرب كفًّا على كفّ دون أن يفكر في اتخاذ إجراء قانوني يواجه الموقف، ولم تزعج عيون من لا ينزعج، فوقف يتفرج وهو يضحك وينثر التعليقات المرحة على من حوله. وانتهى المشهد ببعض المانشيتات الطريفة في الصحف؛ ومرّ الأمر في سلام كما تمرّ كل يوم عشرات الأهوال في مصر، ويطويها النسيان مع صوت أم كلثوم في آخر الليل، وهي تقول: عودت عيني على رؤياك.
لكن السؤال الذي لم يُثر في أي رأس، ولم يُجِب عليه أحد هو: لماذا هرب الجمل؟ ما المشهد المخيف الذي سبق لحظة النحر؛ فأفزعه وجعله يُطلق ساقيه للريح نحو المجهول؟ هل شاهدت عيناه الخائفتان النصالَ وهي تُسنُّ وتُصقل فخفق قلبه بالخوف وهرب؟ وكيف لجمل أعجم أن يعرف أن نصْلَ السكين يذبح ويقتل؟ المفترض ألا يعرف الكائن الأعجم معلومةً تخصّ حياتنا، ما لم يحدث أمامه ما يشرحها. والمفترض ألا يعرف وظائف الأدوات إلا إن شاهدها تُستخدم أمام عينيه مرّة ومرات. هل شاهد الجملُ التعس جِمالا أخرى تُذبح أمام عينيه؟ وهل هذا يتفق مع الشرع الذي يأمرنا بألا نذبحُ ذبيحةَ أمام ذبيحة أخرى لكيلا يملأ الرعبُ قلبها؟ عشرات الفيديوهات تملأ جوانب فيس بوك ودروبه تحكي عن تلك اللحظات الصعبة التي تسبق نحر الذبيحة على أيدي جزارين غير محترفين. وللأسف دائمًا تلك الفيديوهات مختومة بخاتم واحد لا يتغير: “صُنع في مصر". يقول الرسول في الحديث الشريف: “وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح". لكننا قلّما نمتثل لهذا الهدي النبوي النبيل، وقلّما ننفذ تلك البديهة الإنسانية المتحضرة. الحيوان في عيون بعضنا مخلوقٌ لا يشعر ولا يتألم كأنه جماد. أو كأنه "شيء" منحه لنا الله ليس فقط لكي نفيد منه فنركبه لينقلنا من مكان إلى مكان، ويحمل لنا أغراضنا، أو نستخدمه على كل نحو، لكنه مخلوق لكي نعذّبه ونضحك عليه وهو يتألم ونستعذب كل لحظة من لحظات أنينه ووجعه أثناء مفارقة روحه جسده.
متى تعلّمنا هذه القسوة؟ متى غلظت قلوبنا وتحجّرت فما عادت تشفق على المستضعفين من البشر ومن الحيوان؟ هل تراكُم قسوة الحكام وبطش الحكومات علّمنا القساوة على من هم أدنى منّا قوة وبطشًا؟ هل بطش من هو أقوى مني، يُعدّ مبررًا لي لأن أبطش بمن هو أضعف مني؟ في مقال قريب قادم، سأكتب لكم عن "المذبح" في دولة الإمارات العربية المتحدة. سأكتب لكم من خلال زيارة ميدانية أقوم بها بنفسي، لنفرح بهذا الشعب المتحضر الذي نجح في خلق نظام راق وأسلوب نظيف متحضر في التعامل مع الذبائح والحيوانات الداجنة. سأكتب لكم لا لكي نحزن على أنفسنا، حين نقارن بين حالنا وحالهم، إنما لنلمس كيف وصلوا إلى أعلى درجات الترقّي في التعامل مع الذبيحة منذ تجهيزها للنحر وحتى تتحول إلى قطع نظيفة من اللحوم الصالحة للاستهلاك الآدمي. والعُقبى لنا في مصر الطيبة.

          
تم نسخ الرابط