كارولين كامل تكتب ..أنا «دقيت» صليب!

خاص لموقع الحق والضلال
يعود الفضل إلى وشم ذراعي بالصليب إلى "استفزاز" زملاء الطفولة المسلمين لي في مرحلة الابتدائية، حيث قضيت فترة التعليم الأساسي في مدرسة تابعة لمسجد "السنية"، وكانوا يتعمدون إذلالي بأني ضعيفة و"جبانة" ومقارنتي بزملائنا المسيحيين الذين كانوا يحملون "صليب" على أذرعتهم منذ أن كانوا رضع. نعم أرسلني والدي أنا وأخي الأصغر مني إلى هذه المدرسة ولا أعلم السبب حتى الآن، وكانت المدرسة جزء لا ينفصل عن مسجد "السنية"، ولا أنسى المرات التي تم إجبار جميع الفتيات، حتى المسيحيات منهن، على ارتداء الحجاب لأن أكبر شيوخ المسجد في زيارة للمدرسة، وبالرغم أنه كفيف إلا أنه يأتي بصحبة عدد كبير من الشيوخ وشباب السنية الذين يخبرونه إذا شاهدوا فتاة سافرة، رغم كوننا أطفال. والعودة مرة أخرى لوشم الصليب، نشأتُ في أسرة لم يشم أي من والديَّ أو أجدادي صليبًا، كما أن والديَّ كانا ضد الفكرة شكلًا وموضوعا، وكنت كثيرًا أحسد أقراني المسيحيين الذين قاموا بوشم الصليب؛ إما في أحد الموالد مثل مولد "العذراء" أو مولد "مارجرجس"، أو في كنيسة "أبانوب والعذراء" الأثرية بمدينة "سمنود" القريبة من مدينة "المحلة الكبرى". ما يميز "سمنود" أن المسيحي لا يحتاج انتظار مولد "أبانوب"، حيث اعتدنا أن نرى الرجل الملطخ بالحبر الأزرق يجلس على أريكة في أحد أركان الكنيسة طوال العام سواء كان هناك مولد أو لا، يقوم بوشم الصليب وصور العذراء والمسيح والقديسين للأطفال والرجال، ويكفي أن تسمع صراخهم لتعرف كم هي عملية مؤلمة، بالإضافة إلى صوت الأزيز المنبعث من آلة الوشم وكان يثير قشعريرة مخيفة. لا نقول عليه وشم وإنما "دق" "أنا عايز أدق صليب" وهي الجملة التي رددتها علي مسامع والديَّ كثيرًا وقوبلت بالرفض، ولكن إذلال زملاء الطفولة من المسلمين لي وقولهم لي "انتى مش مسيحية عشان معندكيش صليب" كان يدفعني يوميا لرسم صليب بالقلم الأزرق والذي عادة كانت أكمام "المريلة البنية" تقوم بمحوه قبل وصولي للمدرسة، وتكرار تواجد الحبر على أكمام المريلة كان يسبب غضب أمي متسائلة كيف يصل الحبر للبطانة الداخلية للكم، فمن الطبيعي أن تتلطخ أكمام المريلة أو المريلة ذاتها بالحبر إنما البطانة الداخلية للكم كانت تحتاج لخيال واسع ليتم إدراكها. انتقلنا من مرحلة "المريلة" لمرحلة "القُمصان" ومازالت رغبتي في "دق" الصليب متأججة، حتى عزمت واتخذت قراري على تشكيل جماعة ضغط لإجبار أبي وأمي، ومن هنا جاءت فكرة إقناع إخوتي، أختى الأكبر وأخي الأصغر بضرورة أن "ندق الصليب" والحديث عن روعته وكونها مغامرة أن نتحمل هذا الألم، واجهت صعوبة في البداية خاصة مع عدم رغبتهما وتحمسهما للفكرة، إلا أن مقدرتي على الإقناع مشهود لها منذ الصغر. انتظرت تحديد موعد لزيارة كنيسة "أبانوب والعذراء" في مدينة "سمنود" لحضور إحدى سهرات المولد هناك، حيث التسبيح والترتيل طوال الليل يعقبه قداس مع الفجر ينتهي في الثامنة صباحا، وكنا برفقة أسرة صديقة لأسرتي وأولادهم أصدقائنا وفي نفس المرحلة العمرية وأكبرنا في المرحلة الإعدادية واعتزموا هم أيضا "دق صلبان". لم يصمد والدي أمام إلحاحنا وضغط وإلحاح أصدقائنا، وفي الآخر أخبره والد أصدقائنا أن يتركنا نفعل ما يحلو لنا، وفي النهاية نحن من سيتألم وهي الجملة التي ردَّ بها على أولاده في محاولة لترهيبنا لنعدل عن قرارنا. وافق والدي ولكن اشترط أن نقوم بهذه العملية السرية بعيدًا عن أعين أمي، ونفاجئها أننا قمنا بدق الصلبان لأنها لن توافق ولن تلين أمام إلحاح أي إنسان، بل ستغضب وتقرر عودتنا وعدم قضاء هذه السهرة المنشودة، وبالفعل اقتربنا لنقف في طابور طويل أمام الرجل الذي يجلس بهدوء علي أريكة وبجواره "محبرة" يضع فيها "إبرة" الماكينة التي يوشم بها، بينما يصرخ الأطفال ويرتعدون بين أيادي آبائهم. قررنا أن تكون أختي الكبيرة هي أول من يقوم بالدق، وما أن وصلنا لدورنا حتى طلب والدي من الرجل تغيير "الإبرة"، الأمر الذي امتعض بسببه الرجل، وتململ في تغييرها ولكن نظرة والدي المتحدية كانت أقوى من أن يتراجع أو يخسر ثمن 3 صلبان، لأن والدي اشترط أنه إذا تم تغيير الإبرة لن يوافق حتى وإن قتلنا أنفسنا أمامه. لم يعد هناك وقت للتراجع ولكن ما أن اقتربت أختى وأمسك الرجل بيديها حتى بدأت التحرك ومحاولة الفكاك نظرت لنا فقمت بتشجيعها بينما أخي الصغير مشغول ببكاء الأطفال الآخرين، سألها والدي مرة أخري أن أرادت أن تتراجع إلا أنها تنهدت ورفضت وأصرت علي إتمام المهمة. وضع الرجل بقعة الحبر أولًا، ثم قام بتشغيل الماكينة وخرج صوتها كالرعد، والتي لم تقو حتى أصوات الألحان والتسبيح المنبعثة من الكنيسة أن تغطي على "أزيزها"، وأتذكر كم صرخت أختي كثيرا وأبي يحتضنها ويحاول تهدئتها ولكن فات وقت التراجع ولا يمكن سحب يدها وإلا جرحت الماكينة يدها. انتهت بعد دقيقة ولكنها مرت كالدهر، ووقفت تبكي كثيرا، وعندما رآها أخي قرر التراجع نهائيا، ولكن على عكس موقف أبي تجاه أختي حيث سألها الانسحاب، وجدته يشجع أخي ويحسه علي التماسك وأن يكن كبير ومتحملًا، الكلمات التي لم تقنع أخي كثيرا وتقدم لمصيره باكيا قبل حتى أن يضع الرجل بقعة الحبر. لم يختلف أخي كثيرا في حالة البكاء والصراخ، وكم تألمت له ولأختي لأني أنا المسئولة عن تعريضهما لهذا الألم، حان دوري وتقدمت بكل ثقة رغم رعبي خاصة وأني أكثر أخواتي ضعفا وجبنا حتى أني كنت الأخيرة في تعلم ركوب الدراجة لأني كنت أخشي الألم والإصابات، وتوقع والدي أن يغمى عليَّ قبل أن يمسك الرجل يدي، إلا أنه فوجئ أني تقدمت بقوة وشجاعة وأعطيت يدي للرجل بهدوء وتماسك، ولم أبكِ حتى انتهى الرجل ثم ابتسمت وقفزت فرحًا، لن أنكر أن الألم كان كبيرًا، ولكني تخيلت نظرة زملائي المسلمين عندما يرون هذا الصليب الأزرق أخيرًا يجد مكانه علي ذراعي، ولن أضطر مرة أخري لرسمه بالقلم الجاف. يتحرك الأطفال الذين قاموا بدق صلبان بحذر حتى لا تصطدم أياديهم بأحد، إما بسبب الألم أو بسبب الهوس بأن لا يجب أن نلمس هذه المنطقة يومين حتى يتشرب الجلد الحبر، ولكن كان لأختي الكبيرة رأي آخر، حيث اقترحت علينا أن نقوم بتلوين الصلبان الخاصة بنا لتتحول من اللون الأزرق للون الأخضر، وذلك بوضع ورق شجر فوق بقعة الحبر، وافق أخي على الفكرة، ولكني رفضت بشدة، الأمر الذي تسبب في ما بعد بمحو أجزاء كبيرة من صلبان أخواتي ويكاد يكون غير مرئي بينما ظل "صليبي" أزرق بارز وحجمه أكبر من المعتاد. لم نستطع قضاء السهرة في الكنيسة لأننا تألمنا جدا، وفوجئت أمي بما فعلنا وغضبت، وعندما كنا نشكو من الألم كانت تقول لنا أننا نستحق هذا لأننا من فعلنا هذا بأنفسنا، بينما تعرض أبي لسيل أكبر من التوبيخ علي موافقته لنا، عانينا آلام شديدة علي مدار أيام، وعجزنا عن النوم بشكل طبيعي حيث نقوم بمد أيدينا بعيدًا حتى لا يتشوه الصليب، ولا يظهر شكل الصليب إلا بعد أن تسقط القشرة التي تكونت فوق الجرح، فيظل مدة أسبوع أو أكثر عبارة عن بقعة زرقاء مستديرة لا ملامح لها وعلينا أن نحرص ألا تُنزع القشرة حتى لا نتألم أكثر. كانت سعادتي في اليوم التالي وأنا أقوم بثني "أسورة" القميص حتى لا يحتك مكان الصليب بها، لا توصف حيث تعمدت التأوه والشكوى من ألا يقترب أحد مني حتى لا يصطدم بذراعي حيث قمت بدق الصليب، ولازمتني حركة مبالغة ليدي لإظهار الصليب في يدي، وبعد أن سقطت القشرة تهافت زملاء الطفولة علي طلب رؤيته وأن أروي لهم تفاصيل هذه العملية المرعبة، وكم استمتعت أن أقص عليهم القصة ذاتها بالتفاصيل الدقيقة مرات ومرات. ليس صحيح أن المسيحيين يلجأون للوشم للتعرف على بعضهم البعض، أو أنه امتداد لعصر "العضمة الزرقا" وحتى طراطير العصر الفاطمي، أو أن الكنيسة تُجبر المسيحيين على دق الصلبان مثلما سمعت من كثيرين، وليس صحيح أن كل المسيحيين يقدمون على مثل هذه الخطوة بناء علي تنبيهات "القسيس"، فهي عادة اجتماعية وليست دينية منتشرة في الأرياف والصعيد أكثر من مناطق أخري ولكنها في النهاية اختيار شخصي، كما أن دق الوشم منتشر في الموالد الإسلامية والمسيحية. وللأسف جرت العادة أن تقوم بعض الأسر المسيحية بوشم أطفالهم وهم مازالوا رضع صغار، وهي عملية مؤلمة يعاني منها الطفل أياما لحين التئام جرحه، والذي أراه سلوكً غير آدمي بالمرة أن تعرّض طفلك لمثل هذا الألم، كما أنك تسلبه حق الاختيار في أن يقرر مصيره حتى لو كنا في مجتمع يعتنق الدين بالوراثة دون إعمال العقل والإرادة، إلا أن فكرة ربط طفلك جسديا بعقيدة ما من خلال هذا الوشم هو القهر بحد ذاته، وإجباره على تمييز واضح لهويته الدينية، وانتهاك حرمة وخصوصية جسده، فهو وحده صاحب قرار "دق الصليب" من عدمه. - See more at: www.elyomnew.com/articles/41702#sthash.zvIeLF43.dpuf