أصابع أمريكية وراء اغتيال يوسف السباعي

الحق والضلال

يقول لويس جريس الحديث عن يوسف السباعى مهما كان طويلاً، لكنه لن يلم بكل أمور السباعى ، ذلك لأنه كان متعدد المواهب، والإبداعات، فهو كان يكتب الرواية، والقصة القصيرة، وترأس منظمة التضامن الأفروآسيوى، وصدرت له روايات تحولت إلى أفلام سينمائية، وكانت مؤثرة فى تاريخ السينما المصرية، مثل السقامات ، و العمر لحظة ، و رد قلبى ، و أرض النفاق ، وكثير منها دخل ضمن أعظم 100 فيلم خلال القرن الماضى.

ويؤكد لويس أن الحديث عن يوسف السباعى ، الإنسان، يكشف أموراً مدهشة، ومواقف رجولية مبهرة، مثلاً هو الذى عين أحمد فؤاد نجم فى منظمة التضامن الفروآسيوى، مع أنه كان يهاجمه، وعندما سأله لويس عن هذا التعيين قائلاً: يوسف بك أحمد فؤاد نجم هاجمك كثيرًا فى أشعاره، وعندما تقدم لطلب وظيفة، وافقت على تعيينه؟

السباعى : بعد أن يضحك، يا لويس أنا لا أقف كثيرًا أمام من يهاجموننى، ويقولون إننى لا أعرف الكتابة، أو إننى لست روائياً، وأعتبر هذا الهجوم وجهة نظرهم، لأننى روائى، وأنشر رواياتى ولها قراء، فماذا فعل هجومهم؟

يظل السباعى. كما يقول صاحب الذكريات، هو الصحفى الذى بدأ الكتابة فى روزاليوسف ، واستمر يكتب فيها سنوات، ثم تركها إلى مجالات أخرى، ولكنه ظل فى الكتابة الصحفية والرؤية الإدارية كما هو معتاد، وكان يوسف السباعى شخصية نادرة لا يمكن سبر أغوارها، ومعرفة كيف تسير إلا بمعرفة أمور كثيرة، منها معرفة الشخصيات التى اقتربت منه أو التى تعاون معها، أو الشخصيات التى أثرت فيه وأثر فيها، ولا يستطيع أحد أن ينظر إلى يوسف السباعى بمنظار واحد، ولا بد أن يراه من جوانب متعددة، وبرؤية متعددة، فقد كان موسوعة منتشرة ومؤثرة فى اتجاهات عديدة، ولم يكن أحادى النظرة، بل كان دائرى النظرة. ويقول لويس عندما يتذكر يوسف السباعى يتذكر نادى القصة الذى أنشأه فى إحدى بنايات سيف الدين فى شارع قصر العينى، وأنشأ المجلس الأعلى للثقافة.

ويذكر أيضًا أن السباعى هو الذى ضم لويس إلى الوفد الذى سافر إلى كوبا . حينما قال لويس إلى أحمد بهاء الدين : عاوز أجدد نشاطى، وأسافر إلى الخارج، بهاء: إذهب إلى يوسف السباعى لأنه يقدر يوفر لك سفرية. وبالفعل ذهب لويس إلى السباعى . الذى قال له: وفد التضامن الأفروآسيوى سيسافر، وستسافر معه.

لويس: والسفر فين؟.

السباعى: سنسافر إلى: كوبا، لكن عن طريق الاتحاد السوفيتى، والعودة كذلك، (حيث لم يكن يوجد طيران مباشر من مصر إلى كوبا) وأن الرحلة ستستمر 6 أسابيع. وسافر الوفد بالفعل إلى الاتحاد السوفيتى ومنه إلى كوبا ، وخلالها اقترب لويس من السباعى ، واكتشف أنه رجل دقيق منظم مرتب، يقضى يومه كالساعة، ومواعيده بالدقيقة والثانية، وكان يوزع أعضاء الوفد على اللجان حتى تأتى له بالأخبار والمعلومات، وظهر يوسف السباعى الذى كان يبدو وكأنه لا يفعل شيئاً، يدير عملية كبيرة جدًا لكنها فى منتهى الدقة والسلاسة، حيث كان يلم بأطراف العملية السياسية، والروحية والاجتماعية فى ذات الوقت، الذى يباشر فيه مهام عمله رئيساً للوفد المصرى، ومع ذلك كان لا يغفل النشاط الاجتماعى والرياضى الخاص به، حيث كان يعطى لنفسه فرصة للسباحة فى حمام السباحة الخاص بالهيلتون، وكان يقابل رؤساء اللجان، بل كان يرأس لجاناً كثيرة ويستمع إلى رؤساء الوفود، وكان الجميع يشعر بوجوده، وأنه فى منتهى اليقظة والدقة فى جميع مواعيده. ويقول لويس : إن تربية يوسف السباعى العسكرية، كانت مؤثرة فيه من حيث الدقة والانضباط والنظام

ويقول لويس جريس: إن الوفد المصرى مكث فى كوبا 10 أيام، على أمل أنهم سيلتقون بـ فيدل كاسترو و تشى جيفارا ، وكانوا يقولون لهم كونوا على أهبة الاستعداد، لأنه يمكن أن يأتى إليكم كاسترو فى أى لحظة، لأنه يمر فى مناطق هنا وهناك، وفى يوم ما قالوا لهم: اليوم سيقابلكم الزعيم، ولم يهتم أحد كثيرًا، والجميع جلس ينتظر فى بهو الفندق، ولم يأت وأعتقد الجميع أن هذا اليوم ربما يكون مثل سابقيه، ثم صعد الجميع إلى غرفهم، وظل لويس فى مكانه إلى أن كبس عليه النوم، ثم فوجئ بمن يوقظه الساعة 3 فجرًا.

ويقول: استيقظ أيها الصحفى المصرى، ويستفيق لويس جريس وإذا به يرى فيدل كاسترو أمامه بل كان هو الذى أيقظه من النوم، وبدأوا يجمعون الوفد المصرى، ليتقابل معه، ويشرح لهم ماذا فعلت الثورة الكوبية، وبدأ يجيب عن الأسئلة. وسأله لويس : هل تفكر فى زيارة مصر؟

كاسترو: بالطبع وأنا متشوق لزيارة مصر، لأرى الفلاح المصرى وأسلم عليه.

لويس: لماذا الفلاح المصرى؟

كاسترو: لأنه معجزة فهو يزرع الأرض 4 مرات فى السنة، ونحن نزرع الزرعة الواحدة 5 سنوات (لأنهم كانوا يزرعون القصب)، وهذا إنسان جدير بالرؤية والاهتمام.

والتف الوفد حول كاسترو و تشى جيفارا وتم التقاط الصور، ودار الحوار حول ثورة مصر، وثورة كوبا، ولكنهم فى كوبا كانوا ينظرون إلى ثورة يوليو على أنها ثورة الأفندية (البرجوازية) وليست ثورة العمال، وتم تصحيح هذه المفاهيم بأنها ثورة شعبية، وليس لها أيديولوجية محددة لأنها تنظر إلى جميع فئات الشعب المصرى.

ويقول شاهدًا على السباعى إنه عاش تجربة خاصة مع يوسف السباعى عندما بدأ يكتب إحدى رواياته فى مجلة صباح الخير واكتشف ان التوزيع يرتفع أسبوعاً بعد الآخر، لأن القراء كانت تتابع رواية يوسف السباعى والتى كانت بعنوان ليل له آخر وتأكد من إقبال الناس على أعداد المجلة، مع أن لويس كان من الفريق الذى لا يعترف بالسباعى كاتبًا أو روائيًا أو كاتب قصة قصيرة، لكن الواقع أجبره على احترام الرجل الذى رفع توزيع المجلة، مؤكدًا أن يوسف السباعى إنسان طيب ورقيق ومتواضع ومحبوب، ولهذا فإن أسلوب حياته فتح له أبواب القلوب، وهو الذى كان يحتفل بعيد ميلاد عبدالناصر بإحضار تورتة ويجمع حوله الأصدقاء ويحتفلون، فقد كان شخصية فريدة مرنة يحسن استقبال الناس ويحسن توديعهم، ولم يكن يتوقف طويلاً أمام الذين يناصبونه العداء، مثل أحمد عبدالمعطى حجازى ، و صلاح عبدالصبور ، و أحمد فؤاد نجم ولكنه لم يكن يعتبرهم أعداء، وهذه كانت ميزة يوسف السباعى الذى يستطيع أن يجمع الأفراد المتنافرة، وكان من ضمن المجموعة التى تلتف حوله أو شلتة من ينتمى إلى اليسار، وهناك آخرون ينتمون إلى اليمين وغيرهم إلى الوسط، والوفد وجميع الأيديولوجيات والأفكار، واستمرت هذه المجموعة، إلى ان توفى السباعى وانفرط تماسكها لأنه هو الذى كان سببًا فى تجميعها، وقد حاول الكثيرون أن يجمعوا الأطراف حولهم، ولكنهم فشلوا ولم يستطيعوا، لأن يوسف السباعى كان شخصية جذابة وأسلوبه شيق وراق، فى تناول الأمور والتعاون، وكان يحتوى الذى أمامه ولا يدخل معه فى صدام أو جدال أثناء النقاش.

وعن يوسف السباعى السياسى أم الأديب أم الصحفى أيهما طغى على الآخر يضع لويس صفة الأديب فى المقدمة، ثم الصحفى، و السباعى السياسى يأتى فى الأخر، لأن يوسف السباعى الرومانسى كان يناطح إحسان عبدالقدوس وفى إقبال السينما على تحويل رواياته إلى أفلام، لدرجة أن يوسف السباعى كان من السهولة أن يحصل على رقم مالى فى الفيلم، يكون إحسان عبدالقدوس جاهد كثيرًا حتى يصل لمثله، وذات يوم سأل لويس عن رأيه فى هذا الأمر.

فقال لويس: أستاذ احسان أرى أن تشترط مراجعة السيناريو والحوار كما يفعل يوسف السباعى ، لأنهم كانوا يعطونه مبلغاً كبيراً حتى يوافق على مراجعة السيناريو والحوار، ومن هنا كان أجره يرتفع

أما عن الصحافة، فقد تولى يوسف السباعى رئاسة تحرير دار الهلال ومنصب نقيب الصحفيين، والعضو المنتدب لمجلة روزاليوسف بعد التأميم، ويرى لويس أن يوسف السباعى لم يتميز فى الصحافة مثل تميزه فى الأدب، ولكنه كان لديه بُعد إنسانى واجتماعى جيد جدًا، وكان يقف بجانب الزملاء ويجد لهم الأعذار، ويجعلهم يشعرون بأنهم لم يقصروا فى شىء، وكان ينفذ إلى القلوب ويستولى عليها، ويجعل الآخرين قريبين منه ولا يعارضونه. وعن يوسف السباعى السياسى يقول لويس : إن السباعى كان رافضًا منصب الوزير، ولكنه أجبر عليه من الرئيس السادات حيث عينه وزيراً للثقافة، وكان يدير الوزارة بهوادة وبدون تشنجات ولا صدامات، وتولى وزارة الإعلام بجانب الثقافة خلال أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، ومرت المرحلة هادئة ومريحة لكل المبدعين، ولم يضاروا أو يستنفروا أو يوضعوا فى مواقف محرجة، ولكنهم كانوا يتعايشون مع بعضهم، خاصة أن يوسف السباعى كان الصلة بينهم وبين السلطة، وعندما تكون لديهم مطالب أو مصالح مع السلطة، كان يوسف السباعى يتبنى هذه المطالب ويرفعها إلى السلطة ويسعى إلى تحقيقها لهم. ويقول لويس: عتب عليه البعض ولاموه لأنه احتفظ بـ سعد الدين وهبة كوكيل أول وزارة الثقافة، لأنه كان يميل إلى اليمين، وكان فى الأصل ضابط شرطة، وكانوا يخشون من كتابة التقارير والوشايات، فكان الرد كما يقول لويس إنه نقلاً عن عبدالرحمن الشرقاوى :

إن السباعى قال: يا جماعة أنا عامل زى اللى لابس حاجة ومريحانى وليه أخلعها. ويقول لويس : سعد كان يستيقظ قبل يوسف السباعى ويكون جاهزاً لكى يخرج معه من منزله قبل موعد نزوله، ويذهب معه إلى الوزارة، ويسيران الأمور سويًا، فكان يريحه من جميع النواحى

ويؤكد الكاتب الكبير. أن يوسف السباعى حضر بدايات الهجوم الشرس من التيار الناصرى على السادات بسبب كامب ديفيد ، وكان يوسف السباعى من مؤيدى الاتفاقية، وقد ذهب مع الرئيس السادات فى رحلته إلى القدس ، ومع هذا تعامل مع الأمور ببساطة وسهولة، وحرفية عالية وكأنها نزهة يقوم بها أو كتاب يقرؤه، لأنه كان رقيقًا ودقيقًا، وملمًا بأطراف الموضوع، وفى الوقت نفسه لا يصدر منه أمر، ينفر منه أحد الأطراف، وهذه كانت تركيبة خاصة به يتعامل بها مع الأزمات. ومع هذا يرى لويس جريس أن يوسف السباعى دفع ثمن مواقف الدولة، وهى السلام، ويؤكد أن الشعب المصرى صُدم صدمة شديدة جدًا بسبب اغتيال يوسف السباعى ، لأنه لم يوجد شخص فى العرب تحدث ودافع عن قضية فلسطين مثل يوسف السباعى ، مع أنه لم يكن يؤمن بها، وكان يراها فض مجالس

ويرى لويس أن اغتياله فى قبرص، ربما كان يُقصد به أحد غيره، لأنه لا يوجد مبرر يجعل جهة ما، حتى لو كان الفلسطينيون، يقررون قتل يوسف السباعى إنما جهة واحدة وهى أمريكا، والتى يمكن أن تكون شعرت بأن يوسف السباعى بأسلوبه الدبلوماسى الخطير قد يصل إلى حل للقضية الفلسطينية، بما أنه كان يستطيع أن يؤلف بين الأطراف المتصارعة وتلتف حوله جميع الأطراف، ولهذا لا يجد أى مؤشر إلا أن أمريكا قررت إبعاد يوسف السباعى عن الصورة، لأنه كان بالفعل أوشك على تحقيق حل القضية الفلسطينية فأوعزوا إلى القتلة من فلسطين للتخلص منه وإزاحته

ولهذا خرج الشعب المصرى ليودع يوسف السباعى فى جنازة شعبية مهيبة، وشارك فيها الرئيس السادات شخصيًا، وسار مع جموع الجماهير فيها، من بدايتها حتى نهايتها، وخرجت من نادى القصة بشارع قصر العينى وسارت فى الشارع، حتى جامع كخيا بميدان الأوبرا، وتمت الصلاة على جثمانه، وقد كان السادات عظيمًا ووفيًا، وكان يرى يوسف السباعى كصديق، لأنه زامله فى الكلية الحربية

ويتذكر لويس أنهم عندما كانوا يمرون بهذه المنطقة وبها العديد من الكنائس، وكلما مرت الجنازة فى منطقة بها كنيسة، كانت تدق جرس الجنائز إعلانا بأن هناك جنازة لشخصية مهمة تسير فى هذه المنطقة، وجاءت الجماهير من كل حدب وصوب، وكانت تتحرك مثل الجبل، لوداع شهيد الوطن يوسف السباعى .

          
تم نسخ الرابط